د. قيس العزاوي
ما الذي يثير الغضب الأمريكي من زيارات وزير الخارجية الصيني لدول الشرق الأوسط؟
عبرت الإدارة الأمريكية عن تذمرها من التحركات الصينية وصبت غضبها على نتائج الجولات التي قام بها وزير خارجية الصين وانغ يي في نهاية شهر مارس الماضي لكل من تركيا وايران والسعودية وعمان والبحرين وإبرامه عددا من اتفاقات التعاون المهمة مع هذه الدول، وكذلك مع جامعة الدول العربية. فلماذا كل هذا الغضب الأمريكي من العلاقات الصينية مع دول الشرق الأوسط وماذا تخفي هذه النشاطات التي تعتبرها الولايات المتحدة مريبة!؟
بداية سنتذكر سوية بعض المؤشرات التاريخية التي تقدم صورة ما جرى في منطقتنا الشرق أوسطية. منذ قرابة قرن مضى كانت منطقة الشرق الأوسط حكرا على البريطانيين والفرنسيين اقتسموها في اتفاقهم المشؤوم سايكس بيكو، وبعد حين تسللت الولايات المتحدة كقوة عظمى جديدة عبر نشر "ديمقراطيتها" التي مثلتها مبادئ نيسلون الأربعة عشر لتستحوذ على صناعة القرار في المنطقة، وها نحن نشهد بدايات الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة من الشرق الأوسط بعد أن أصبح همها الأول والأخير استمرار قيادتها للعالم والتفرغ لمنافسة غريمتها الصين الشعبية.
إن أكثر ما أثار حفيظة الإدارة الأمريكية هو أن وزير الخارجية الصيني وانغ يي بحث، على غرار ما تفعله القوى العظمى، في الدول الخمس التي زارها، خاصة المملكة العربية السعودية، القضايا الكبرى التي تهم المنطقة مثل: الصراع العربي- الإسرائيلي، والبرنامج النووي الإيراني، والالتزام بمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، والأمن البحري، ومكافحة الإرهاب، والتنمية الاقتصادية، والتعاون في مجال التلقيح ضد فيروس كورونا، وإعادة الإعمار.
وفي الإمارات العربية وقع الوزير الصيني اتفاقًا يسمح للشركة الإماراتية "جي 42" بالبدء محليًا في إنتاج حوالي 200 مليون جرعة من اللقاح الصيني "سينوفارم" المضاد لفيروس كورونا.
وكما يبدو فإن الصين بدأت تتدرب إقليميا ودوليًا على مهام إدارة القضايا الكبرى التي تشغل العالم، ولكي لا نذهب بعيدًا فسوف نبقى في منطقة الشرق الأوسط ونقيس نتائج جولات وزير الخارجية الصيني وما خلفته من تأثيرات استراتيجية على المكانة الأمريكية دوليًا.. وقبل ذلك سنشير إلى حقيقتين:
- الأولى النجاح الباهر لدبلوماسية الصين الناعمة، فمنذ أن اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالصين الشعبية بديلًا عن تايوان عام 1971 والصين تمارس دبلوماسيتها الهادئة، وتكلل وجودها في شبكة العلاقات الدولية بمنطق التعاون وليس بمنطق القوة والإغراء كما فعلت الولايات المتحدة.
- والحقيقة الثانية أن الصين تقدم نفسها باعتبارها تنتمي لدول الجنوب، وليس لها ماضٍ استعماري وهي شريك يعتمد عليه في تنمية الدول الفقيرة، وقد وزعت مؤخرًا جرعات من لقاحها "سينوفارم" على 17 دولة في الشرق الأوسط.
أما أهم نتائج جولات الوزير الصيني فيمكننا إيجازها بالتالي:
أولًا: بعد أن نجحت الولايات المتحدة بإفشال اتفاقية إطار التعاون الاقتصادي بين العراق والصين التي وقعت في بكين بتاريخ 19/9/2019، لمدة عشرين عامًا بقيمة تقديرية 450 مليار دولار وتتضمن مبادلة عائدات النفط بتنفيذ مشاريع البنى التحتية، كبناء المدارس والمستشفيات والطرق والكهرباء والصرف الصحي.
ولكن الولايات المتحدة فشلت في وقف الامتداد الصيني لدول الشرق الأوسط، فالسياسة الأمريكية دفعت طهران إلى أحضان بكين. حيث وقع وزير الخارجية الصيني أثناء زيارته لطهران مؤخرًا على "خطة التعاون الصيني- الإيراني الشامل" وهي خارطة طريق للتعاون الثنائي في مجالات الأمن والاقتصاد والتبادل الثقافي، كما أنها اتفاقية تعاون اقتصادي واستراتيجي مدتها 25 عاما.
ثانيًا: إن أكثر ما شغل بال الاستراتيجيين الغربيين هو ما تضمنته بعض مضامين الاتفاقية المكونة من 18 صفحة التي نشرت بعضها صحيفة "نيويورك تايمز" مذكرة أن إيران والصين صاغتا بهدوء شراكة اقتصادية وأمنية شاملة. تتضمن الاتفاقية مقترحات صينية لإرساء بنى تحتية لشبكة اتصالات بتقنية الجيل الخامس، وتطوير التعاون الاستخباراتي والعسكري.
ثالثًا: على الرغم من التكذيب الرسمي الإيراني لما نقلته مجلة "بتروليوم إيكونيميست" من أن بكين ستقوم بتشييد قاعدة عسكرية في جزيرة كيش الواقعة في الخليج العربي، فإن هذه التسريبات تبدو مقلقة لدول المنطقة.
رابعًا: نجحت الصين في مساعيها الشرق أوسطية، إذ جرى ربط ايران بشبكة المصالح الصينية من خلال الاتفاقية الاستراتيجية سالفة الذكر، ومن خلال مبادرة "الحزام والطريق" وجاءت زيارة وزير الخارجية الصيني إلى تركيا لكي تربط المصالح التركية بطريق الحرير، حيث تعول الصين على هذه المبادرة التي ترمي إلى إرساء روابط برية وبحرية لشبكة مصالح تشمل أكثر من 70 دولة تضخ فيها استثمارات صينية هائلة لتطوير البنى التحتية وتعزيز العلاقات التجارية الصينية مع دول العالم، وذلك من خلال تأسيسها لطريقين: طريق بري مكون من مد سكك الحديد وتشييد الطرق عبر دول آسيا الوسطى وروسيا، وطريق بحري يسمح للصين بالوصول إلى الدول الإفريقية والأوروبية عبر بحر الصين والمحيط الهندي، وتبلغ كلفة المبادرة الإجمالية حوالي 1000 مليار دولار، وهو ما يغري تركيا التي أشاد مسؤولوها بطريق الحرير.
خامسا: التعامل الصيني مع التناقضات الإقليمية، فالوزير الصيني زار عواصم دول متعارضة ومختلفة مثل إيران والسعودية وتركيا، وتعامل بحذر مع طبيعة سياساتها الإقليمية بكثير من البرجماتية، مفضلًا عدم الخوض بأوضاعها المحلية وشؤونها السياسية ومستخدمًا لغة المصالح والتعاون، وهو المنطق المقبول في السياسات الدولية.
سادسًا: تكللت الجهود الصينية- العربية بتوقيع مبادرة التعاون بين الصين والأمانة العامة لجامعة الدول العربية في مجال أمن البيانات، الأمر الذي جعل الدول العربية أول منطقة في العالم تقوم بتعزيز الحوكمة الرقمية العالمية، وتكون أنموذجا يحتذى للدول النامية لكونها تدفع نحو بناء فضاء سيبراني سلمي آمن ومنفتح وتعاوني.
ولكن تبقى المشكلة الأساسية ليست كما تبدو عليه العلاقات الصينية الشرق أوسطية ولكن بما تصوره الباحثين وصناع القرار الأمريكيين وقدروه لمكانة بلدهم على الساحة الدولية.
وربما يمكننا أن نلخص كل ما جرى بتقدير أحد خبراء معهد واشنطن الذي يساهم بصناعة القرار في أمريكا وهو ايلاري پاپا الذي نجح بتصوير الانطباع العام المتداول لدى الإدارة الأمريكية للتحركات الصينية بقوله "إن الصين تهدد بشكل تراكمي بتقويض مصالح الولايات المتحدة في دول منطقة الشرق الأوسط! وان هذه الجولات التي قام بها الوزير الصيني تهدف إلى تصوير بكين كقوة عظمى مسؤولة تتفهم القضايا المحلية الرئيسية. وهذا باختصار شديد هو جوهر الصراع التنافسي على قيادة العالم انطلاقا من الشرق الأوسط!